فصل: تفسير الآيات (88- 94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (88- 94):

{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}
ولما كان ما أوتيه وما سيؤتاه أعظم ما أوتيه مخلوق، اتصل به قوله: {لا تمدن عينيك} أي مداً عظيماً بالتمني والاشتهاء المصمم، ولذلك ثنى العين احتزازاً عن حديث النفس {إلى ما متعنا} أي على عظمتنا {به أزواجاً} أي أصنافاً {منهم} أي أهل الدنيا؛ أو يقال: إنه لما كان المقصود لكل ذي لب إنما هو التبليغ بدار الفناء إلى دار البقاء، المؤكد إتيانها في الآية السابقة، وكان القرآن- كما تقدم- كفيلاً بذلك، وسلاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عما يؤذونه من أقوالهم، وتبين من ذلك علو درجته، توقع السامع ذكر ما أسبغ عليه من النعم فقال تعالى؛ أو يقال: إنه لما أمره سبحانه بالصبر على أذاهم، علل ذلك مما معناه أنهم خلقه، وأنه منفرد بالخلق، وهو بليغ العلم بأفعالهم مريد لها، فليس الفعل في الحقيقة إلا له، وعلى المحب أن يرضى بفعل حبيبه من حيث إنه فعله، ولما كان التقدير: فهو الذي خلقهم، وعلم قبل خلقهم ما يفعلون، عطف عليه تسلية له صلى عليه وعلى آله وسلم قوله: {ولقد آتيناك} أي بما لنا من العظمة كما أتينا صالحاً ما تقدم {سبعاً من المثاني} يكون كل سبع منها كفيلاً بإغلاق باب من أبواب النيران السبعة، وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة، زيادة في حفظها، وتبركاً بلفظها، وتذكيراً لمعانيها، تخصيصاً لها عن بقية الذكر الذي تكلفنا بحفظه {و} آتيناك {القرآن العظيم} الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفلة بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى، المشار إلى عظمته أول السورة بالتنوين ووصفه بأنه مبين للبراهين الساطعة على نبوتك، والأدلة القاطعة على رسالتك، الدالة على الله الموصلة إليه، والآية مع ذلك دليل على العلم المختتم به ما قبلها، فكأنه قيل: فماذا أعمل؟ فقيل في معنى {ذرهم يأكلوا}: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} اكتفاء بهذا البلاغ العظيم الذي من تحلى به وأشربه قلبه أراه معايب هذه الدار فبغضه فيها وأشرف به على ما أمامه {ولا تحزن عليهم} لكونهم لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار، ويقوى بهم جانب الإسلام، وكأن هذا هو الصفح المأمور به، وهو الإعراض عنهم أصلاً ورأساً إلا في أمر البلاغ.
ولما أمره في عشرتهم بما أمر، أتبعه أمره بعشرة أصحابه رضي الله عنهم بالرفق واللين فقال تعالى: {واخفض} أي طأطئ {جناحك للمؤمنين} أي العريقين في هذا الوصف، واصبر نفسك معهم، واكتفِ بهم، فإن الله جاعل فيهم البركة، وناصرك ومعز دينك بهم، وغير محوجك إلى غيرهم، فمن أراد شقوته فلا تلتفت إليهم، وهذا كناية عن اللين، وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه عليه- قاله أبو حيان؛ وفي الجزء العاشر من الثقفيات عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «المؤمن لين حتى تخاله من اللين أحمق».
ولما كان الغالب على الخلق التقصير، قال له: {وقل} أي للفريقين، مؤكداً لما للكفار من التكذيب، ولما للمؤمنين به من طيب النفس: {إني أنا} أي لا غيري من المنذرين بالأعداء الدنيوية {النذير المبين} لمن تعمد التقصير، إنذاري منقذ له من ورطته، لأنه محتف بالأدلة القاطعة.
ولما ذكر ما التحم بقصة أصحاب الحجر المقتسمين على قتل رسولهم، وختمه بالإنذار الذي هم أهله، عاد إلى تتميم أمرهم فشبههم بمن كذب من هذه الأمة فقال: {كما} أي كذب أولئك وآتيناهم آياتنا فأعرضوا عنها ففعلنا بهم من العذاب ما هم أهله مثل ما {أنزلنا} أي بعظمتنا من الآيات {على المقتسمين} أي مثلهم من قريش حيث اقتسموا شعاب مكة، ينفرون الناس عنك ويفرقون القول في القرآن، فلا تأس عليهم لتكذيبهم وعنادهم مع رؤيتهم الآيات البينات، فإن سنتنا جرت بذلك فيمن أردنا شقوته كقوم صالح؛ ثم قال: {الذين} أي مع أنهم تقاسموا على قتلك واقتسموا طرق مكة للتنفير عنك {جعلوا القرءان} بأقوالهم {عضين} أي قسموا القول فيه والحال أنه جامع المعاني، لا متفرق المباني- منتظم التأليف أشد انتظام. متلائم الارتباط أحكم التئام، كما قدمنا الإشارة إليه بتسميته كتاباً وقرآناً، وختمنا بأن ذلك على وجه الإبانة لاخفاء فيه، فقولهم كله عناه، فقالوا: سحر، وقالوا: شعر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين- وغير ذلك، أنزلنا عليهم آياتنا البينات وأدلتنا الواضحات، فأعرضوا عنها واشتغلوا بما لا ينفعهم من التعنت وغيره دأب أولئك فليرتقبوا مثل ما حل بهم، ومثلهم كل من تكلم في القرآن بمثل ذلك مما لا ينبغي من العرب وغيرهم؛ وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما {جعلوا القرآن عضين} قال: هم أهل الكتاب: اليهود والنصارى، جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وسيأتي معنى هذه اللفظة {فوربك} أي فتسبب عن فعلهم هذا أنا نقسم بالموجد لك، المدبر لأمرك، المحسن إليك بإرسالك {لنسئلنهم أجمعين} أي هؤلاء وأولئك {عما كانوا} أي كوناً هو جبلة لهم {يعملون} أي من تعضية القرآن وغيرها لأنا نسأل كلاًّ عما صنع {فاصدع} أي اجهر بعلو وشدة، فارقاً بين الحق والباطل بسبب ذلك {بما تؤمر} به من القرآن وكتاب مبين {وأعرض} أي إعراض من لا يبالي {عن المشركين} بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء، ويؤيد أن قوله: {كما} راجع إلى قصة صالح ومتعلق بها- وإن لم أر من سبقني إليه- ذكرُ الوصف الذي به تناسبت الآيتان وهو الاقتسام، ثم وصف المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين، لئلا يظن أنهم الذين تقاسموا في بيات صالح، أي أتينا أولئك الآيات المقتضية للإيمان فما كان منهم إلا التكذيب والتقاسم كما أنزلنا على هؤلاء الآيات فما كان منهم إلا ذلك، وإنما عبر في أولئك ب {ءاتيناهم} لأن آياتهم الناقة وولدها والبئر، وهي معطاة محسوسة، لا منزلة معقولة، وقال في هؤلاء أنزلنا إشارة إلى القرآن الذين هو أعظم الآيات، أو إلى الجميع وغلب عليها القرآن لأنه أعظمها، وإلى أنهم مبطلون في جحدهم وأنه لا ينبغي لهم أن يتداخلهم نوع شك في أنه منزل لأنه أعظم من تلك الآيات مع كونها محسوسات، وأما اعتراض ما بينهما من الآيات فمن أعظم أفانين البلاغة، فإنه لما أتم قصة صالح عليه السلام، علم أنه المتعنتين ربما قالوا: لأيّ شيء يخلقهم ثم يهلكهم مع علمه بعدم إجابتهم؟ فرد عليهم بأنه ما خلق {السماوات والأرض وما بينهما} من هؤلاء المعاندين ومن أفعالهم وعذابهم وغير ذلك {إلا بالحق وأن الساعة لآتية} فيعلم ذلك كله بالعيان من يشك فيه الآن، وذلك حين يكشف الغطاء عن البصائر والأبصار فاصفح عنهم، فإنه لابد من الأخذ لك بحقك، إن لم يكن في الدنيا ففي يوم الجمع، ثم أكد التصرف بالحكمة بقوله: {إن ربك هو الخلاّق العليم} ثم سلاه- عما يضيّقون به صدره من التكذيب بالساعة، وأن الوعد بها إنما هو سحر، ونحو ذلك من القول، ومن افتخارهم بأموالهم ونسبته إلى الحاجة إلى المشي بالأسواق- بما آتاه من كنوز القرآن، وأمره بأن يزيد في التواضع واللين للمؤمنين لتطيب نفوسهم فلا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا، وأن ينذر الجميع ويحذرهم من سطوات الله أمثال ما أنزل بالأقدمين، ثم عاد إليهم فشبههم بهؤلاء في التكذيب ليعلم أنهم أجدر منهم بالعذاب لأنهم مشبه بهم، والمشبه به أعلى من المشبه، وذلك لكونهم أشد كفراً لأن نبيهم أعظم وآياته أجل وأكثر، وأجلى وأبهر، فيكون ذلك سبب اشتداد حذرهم، ولك أن تقول ولعله أحسن: إنه تعالى لما ذكر أن ثمود سكنوا الأرض سكنى الآمنين.
فأزعجتهم عنها صيحه سلبت أرواحهم، وقلبت أشباحهم، كما سيكون لأهل الأرض قاطبة بنفخة الصور، عند نفوذ المقدور، وكان قد قدم ذكر كثير مما في السماوات والأرض من الآيات والعبر بقوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} وما بعد ذلك من الجن والإنس وغيرهما مما جعل ذكر اختراعه دليلاً على الساعة، أتبع ذلك أن سبب خلق ذلك كله وما حواه من الخافقين إنما هو الساعة فقال {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي بالأمر الثابت لا بالتمويه والسحر كما أنتم تشاهدون، أو بسبب إقامة الحق وإبانته من الباطل إبانة لا شك فيها يوم الجمع الأكبر، ومن إقامة الحق تنعيم الطائع وتعذيب العاصي، وذلك بعد إتيان الساعة بنفختي الصور {وإن الساعة لآتيه بالحق} أيضاً، وليست سحراً كما تظنون، ولما كان إتيانها لهذا العرض مما يشفي القلب لإدراك الثأر وهو حق لابد منه، تسبب عنه قوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل}.
ولما كانت النفس بخبر الأعلم أوثق، وكان صانع الشيء أعلم به من غيره فكيف إذا كان مع ذلك تام للعلم قال الله تعالى معللاً لذلك {إن ربك} أي المحسن إليك {وهو الخلاّق} أي التام القدرة على الإيجاد والإعدام، الفعال لذلك {العليم} البالغ العلم؛ ولما ختم بهذين الوصفين بعد تقدم الأخبار عما أوتى أهل الحجر من الآيات، وأنه خلق الوجود بالحق لا بالتمويه، وكان ذلك موجباً لتوقع الإخبار عما أوتي هذا النبي الكريم منها لإرشاد أمته، وكانت الآيات إما أن تكون من قسم الخلق كآية صالح، أو من قسم الأمر الذي هو مدار العلم، أشار إلى تفضيله صلى الله عليه وسلم بفضل ابنه، فقال عاطفاً على ذلك {ولقد ءاتيناك} أي إن كنا أتينا صالحاً أو غيره آية مضت فلم يبق إلا ذكرها فقد آتيناك {سبعاً من المثاني} وهي الفاتحة التي خصصت بها، ثنى فيها البسملة للمبادئ، والحمدلة للكمالات، والرحمانية والرحيمية فيها للإبداع الأول والمرضي من الأعمال، وملك الدنيا المسمى بالربوبية لكونه مستوراً، وملك يوم الدين، وبينهما رحمانية الإيجاد الثاني بالمعاد ورحيمية الثواب للمرضي من الأسباب، والعبادة التي لا تكون إلا مع القدرة والاختيار، والاستعانة الناظرة إلى العجز عن كمال الاقتدار، والهداية بالهادي والمهدي، والضلال في مقابل ذلك بالمضل والضال، وفي ذلك أسرار لا تسعها الأفكار {والقرآن الكريم} الجامع لجميع الآيات مع كونه حقاً ثابتاً لا سحراً وخيالاً، بل هو آية باقية على وجه الدهر، مستمراً أمرها، دائماً تلاوتها وذكرها، تفني الجبال الرواسي وهي باقية، وتزول السماوات والأراضي وهي جديدة، إذا اصطف عسكر الفجرة قالت كل آية منها هل من مبارز؟ وإن رام عدو مطاولة لتحققه بالضعف صاحت لدوام قوتها: إني أناجز فلا تقوم لها قائم، ولا يحوم حول حماها حائم، ولا يروم خوض بحرها رائم.
ولما كانت هذه الآية لصاحبها مغنية، ولمن فاز بقبولها معجبة مرضية، حسن كل الحسن اتباعها بقوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} ولما كان كفرهم بعد بيانها إنما هو عناد، قال تعالى: {ولا تحزن عليهم} ولما كان الغني بها ربما طن حسن أنفة الغنى، عقبه قوله: {واخفض جناحك للمؤمنين} ولما كان ربما ظن أن تلاوتها تغني عن الدعاء لاسيما لمن أعرض، نفى ذلك بقوله: {وقل إني أنا النذير المبين} تحريضاً على الاجتهاد في التحذير، وتثبيتاً للمؤمنين وإرغاماً للمعاندين، واستجلاباً لمن أراد الله إسعاده من الكافرين، إعلاماً بأن القلوب للمؤمنين بيد الله سبحانه وتعالى، فلا وثوق مع ذلك بمقبل، ولا يأمن عن مدبر.
ولما تم ذلك على هذا النظم الرصين، والربط الوثيق المتين، التفت الخاطر إلى حال من يندرهم، وكان كفار قريش- في تقسيمهم القول في القرآن واقتسامهم طرق مكة لإشاعة ذلك البهتان، تنفيراً لمن أراد الإيمان- أشبه شيء بالمقتسمين على صالح عليه السلام، قال تعالى: {كما} أي آتينا أولئك المقتسمين آياتنا فكانوا عنها معرضين، مثل ما {أنزلنا} آياتنا {على المقتسمين} أي الذين تقاسموا برغبة كبيرة واجتهاد في ذلك {الذين جعلوا القرآن عضين} أي ذا أعضاء أي أجزاء متفاصلة متباينة مثل أعضاء الجزور إذا قطعت، جمع عضة مثل عدة وأصلها عضوة {فوربك لنسئلنهم أجمعين} أي لا يمتنع علينا منهم أحد {عما كانوا يعملون فاصدع} أي بسبب أمرنا لك بالإنذار وإخبارك أنا نسأل كل واحد عما عمل {بما تؤمر وأعرض عن المشركين}.

.تفسير الآيات (95- 99):

{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}
ولما كان هذا الصدع في غاية الشدة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكثرة ما يلقى عليه الأذى، خفف عنه سبحانه بقوله معللاً له: {إنا كفيناك} أي بما لنا من العظمة {المستهزءين} أي شر الذين هم عريقون في الاستهزاء بك وبما جئت به، فأقررنا عينك بإهلاكهم، وزال عنك ثقل ما آذوك به، وبقي لك أجره، وسنكفيك غيرهم كما كفيناكهم، ثم وصفهم بقوله: {الذين يجعلون مع الله} أي مع ما رأوا من آياته الدالة على جلاله، وعظيم إحاطته وكماله {إلهاً}.
ولما كانت المعية تفهم الغيرية، ولاسيما مع التعبير بالجعل، وكان ربما تعنت منهم متعنت باحتمال التهديد على تألهه سبحان على سبيل التجريد، أو على دعائه باسم غير الجلالة، لما ذكر المفسرون في قوله: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] الآية آخر سبحان، زاد في الصراحة بنفي كمال كل احتمال بقوله: {ءاخر} قال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: سجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن، فقال أبو جهل: إن محمداً ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين؟ فأنزل الله هذه الآية يعني آية سبحان، وتسبب عن أخذنا للمستهزئين- وكانوا أعتاهم- أن يهدد الباقون بقولنا: {فسوف يعلمون} أي يحيط علمهم بشدة بطشنا وقدرتنا على ما نريد، ليكون وازعاً لغيرهم، أو يعلم المستهزئون وغيرهم عاقبة أمورهم في الدارين.
ولما كان صدعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك على حد من المشقة عظيم وإن أريح من المستهزئين، لكثرة من بقي ممن هو على مثل رأيهم، قال يسليه ويسخي بنفسه فيه: {ولقد نعلم} أي تحقق وقوع علمنا على ما لنا من العظمة {أنك} أي على ما لك من الحلم وسعة البطان {يضيق صدرك} أي يوجد ضيقه ويتجدد {بما يقولون} عند صدعك لهم بما تؤمر، في حقك من قولهم: {ياأيها الذي نزل عليه الذكر} إلى آخره، وفي حق الذي أرسلك من الشرك والصاحبة والولد وغير ذلك {فسبح} بسبب ذلك، ملتبساً {بحمد ربك} أي نزهه عن صفات النقص التي منها الغفلة عما يعمل الظالمون، مثبتاً له صفات الكمال التي منها إعزاز الولي وإذلال العدو {وكن} أي كوناً جبلياً لا انفكاك له {من الساجدين} له، أي المصلين، أي العريقين في الخضوع الدائم له بالصلاة التي هي أعظم الخضوع له وغيرها من عبادته، ليكفيك ما أهمك فإنه لا كافي غيره، فلا ملجأ إلى سواه، وعبر عنها بالسجود إشارة إلى شرفه وما ينبغي من الدعاء فيه لاسيما عند الشدائد، فقد قال تعالى:
{واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وروي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة- ذكره البغوي بغير سند، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر صلى. وفي سنن النسائي الكبرى ومسند أحمد عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح. وفي لفظ لأحمد: لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. ولأحمد ومسلم وأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد».
ولما أمره بعبادة خاصة، أتبعه بالعامة فقال: {واعبد ربك} أي دم على عبادة المسحن إليك بهذا القرآن الذي هو البلاغ بالصلاة وغيرها {حتى يأتيك اليقين} بما يشرح صدرك من الموت أو ما يوعدون به من الساعة أو غيرها مما {يود الذين كفروا معه لو كانوا مسلمين} قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن شرف العبد في العبودية، وأن العبادة لا تسقط عن العبد بحال ما دام حياً- انتهى. وقال البغوي: وهذا معنى ما في سورة مريم عليها السلام {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم: 31] فقد انطبق آخر السورة- في الأمر باتخاذ القرآن بلاغاً لكل خير والإعراض عن الكفار- على أولها أتم انطباق، واعتنق كل من الطرفين: الآخر والأول أي اعتناق- والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.